اقلام وكتابات
الشيخ لحمر بن لسود يكتب لـ(اليوم الثامن): الجنوب العربي.. مسار نضالي تراكمي نحو استعادة الدولة وبناء شراكات الاستقرار
لم تكن التحولات التي يشهدها الجنوب العربي وليدة لحظة سياسية عابرة أو نتيجة ظرف إقليمي طارئ، بل جاءت حصيلة مسار طويل من النضال والعمل الوطني المتراكم منذ منتصف تسعينات القرن العشرين. مسارٌ تشكّل في مواجهة الإقصاء والاحتلال العسكري، وتحوّل تدريجيًا من حالة رفض واحتجاج إلى مشروع سياسي يسعى لاستعادة الدولة وبناء نموذج شراكة مسؤول مع الإقليم والمحيط العربي، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن الدول تُبنى بالفعل والتضحيات، لا بالخطابات والشعارات.
في قراءةٍ هادئة بعيدة عن الانفعال، يمكن فهم التحولات التي يشهدها الجنوب العربي اليوم بوصفها نتيجة طبيعية لمسارٍ طويل من التراكم السياسي والنضالي، وليس حدثًا طارئًا أو انعطافة مفاجئة فرضتها ظروف إقليمية عابرة. فما يجري في الجنوب هو حصيلة عقود من العمل الوطني، بدأ فعليًا منذ منتصف تسعينات القرن العشرين، حين وجد الجنوبيون أنفسهم أمام واقع سياسي وعسكري جديد ألغى دولتهم، وصادر قرارهم، وفرض عليهم منظومة حكم بالقوة لا بالشراكة.
منذ ذلك التاريخ، دخل الجنوب مرحلة معقدة من الصراع المفتوح، لم يكن عنوانها الأول السلاح، بل الوعي والرفض. تشكّلت حالة جنوبية رافضة للاحتلال العسكري الذي فُرض عقب حرب 1994، وبدأت تتبلور تدريجيًا، رغم القمع والإقصاء والتهميش، في شكل حراك اجتماعي وسياسي حافظ على جذوة القضية حيّة في الوجدان الجمعي. لم يكن الطريق معبّدًا، بل كان مليئًا بالانكسارات والتضحيات، إلا أن الثابت في هذا المسار أن الجنوبيين لم يتخلوا عن هدفهم المركزي: استعادة دولتهم وهويتهم السياسية.
ومع مرور السنوات، تطور هذا الرفض من احتجاجات سلمية وفعاليات شعبية إلى مشروع سياسي أكثر نضجًا وتنظيمًا، تزامن مع تحولات إقليمية كبرى فرضت واقعًا جديدًا في المنطقة. الحرب التي اندلعت في اليمن منذ عام 2015 لم تكن سببًا في نشوء القضية الجنوبية، لكنها كشفت عمقها، وأظهرت أن الجنوب يمتلك قدرة ذاتية على التنظيم والدفاع عن أرضه، وعلى بناء مؤسسات أمنية وعسكرية لعبت دورًا محوريًا في مواجهة الإرهاب وحماية الممرات البحرية الحيوية.
إن قراءة موضوعية للتجربة الجنوبية تؤكد أن ما تحقق لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة تراكُم طويل من النضال، وتعلمٍ قاسٍ من أخطاء الماضي. الجنوبيون خاضوا تجارب متعددة، وراجعوا خطابهم وأدواتهم، وانتقلوا من حالة الاحتجاج الدائم إلى مشروع دولة يسعى لبناء مؤسسات فاعلة، وإدارة شؤون الناس، والانفتاح على الإقليم والعالم من موقع المسؤولية لا المغامرة.
الدولة الجنوبية التي يُعلن اليوم عن استعادتها ليست مشروع قطيعة مع المحيط، ولا كيانًا منغلقًا على ذاته، بل دولة عربية بهوية واضحة، تنتمي إلى محيطها الإقليمي والخليجي، وتدرك أن أمنها واستقرارها مرتبطان بأمن المنطقة ككل. الجنوب، بحكم موقعه الجغرافي الاستراتيجي وإطلالته على واحد من أهم الممرات البحرية في العالم، يدرك أن دوره لا يقتصر على الداخل، بل يتجاوز ذلك إلى الإسهام في حماية المصالح المشتركة، ومكافحة التهديدات التي تطال الجميع، من إرهاب وقرصنة وفوضى.
ومن هذا المنطلق، فإن العلاقة التي يسعى الجنوب لبنائها مع الإقليم والجوار الخليجي تقوم على مبدأ الشراكة لا التبعية، وعلى المصالح المتبادلة لا الصراعات الصفرية. الجنوب لا يرى نفسه خصمًا لأحد، بل شريكًا موثوقًا يمكن الاعتماد عليه في معادلات الأمن والاستقرار، وهو ما يفسر حرصه على تقديم نفسه كحليف مسؤول، لا كمصدر قلق أو عبء سياسي وأمني.
في المقابل، لا يمكن تجاهل أن الخطاب العدائي الذي يوجَّه أحيانًا من بعض النخب اليمنية تجاه الجنوب لا يخدم إلا خصوم الجميع. فبدل أن ينشغل هؤلاء بمعركة استعادة الدولة اليمنية من قبضة الحوثي، ينخرطون في سجالات إعلامية على منصات التواصل الاجتماعي، وكأن معركة صنعاء يمكن كسبها عبر منشور في منصة “إكس” أو مداخلة في شاشة إخبارية. التاريخ القريب والبعيد يثبت أن الدول لا تُستعاد بالخطابات، بل بالفعل المنظم والتضحيات الحقيقية على الأرض.
إن رسالة الجنوب للأشقاء في اليمن واضحة: معركة استعادة صنعاء هي معركة اليمنيين أنفسهم، ولن تُحسم بالعداء للجنوب أو بمحاولة تحميله مسؤولية الفشل المتراكم. الجنوب خاض معاركه، ودفع أثمانًا باهظة، ونجح – بقدر ما أُتيح له – في تأمين أرضه وبناء نموذج مختلف. أما استمرار بعض الأصوات في مهاجمة الجنوب، فهو لا يشتت فقط الجهد السياسي والإعلامي، بل يضعف أيضًا الروح المعنوية لأولئك الذين يواجهون الحوثي ميدانيًا، ويحتاجون إلى خطاب يوحّد الصف لا يمزّقه.
الجنوب لا يدّعي امتلاك حلول جاهزة لكل أزمات المنطقة، لكنه يقدّم تجربة تستحق القراءة بعقل بارد. تجربة تقول إن الشعوب التي تصرّ على حقها، وتراكم نضالها، وتتعلم من أخطائها، قادرة في النهاية على فرض واقع جديد. كما تقول إن بناء الدول لا يتم عبر الإنكار أو التخوين، بل عبر الاعتراف بالوقائع، واحترام إرادة الشعوب، والبحث عن صيغ تعايش وتعاون تحفظ مصالح الجميع.
في الخلاصة، فإن ما يشهده الجنوب العربي اليوم ليس انقلابًا على التاريخ، بل امتداد له. هو تعبير عن إرادة سياسية تشكّلت عبر عقود من النضال، وسعيٌ لبناء دولة طبيعية في محيط مضطرب. دولة لا تعادي أحدًا، ولا تنتظر مباركة من أحد، لكنها تمد يدها لكل من يؤمن بأن الاستقرار الحقيقي لا يُبنى بالقوة وحدها، بل بالعدالة والشراكة والاحترام المتبادل. وفي زمن تتكاثر فيه الأزمات، قد يكون هذا الخيار – رغم صعوبته – هو الأكثر واقعية وعقلانية.