اقلام وكتابات
وليد فكري يكتب: المنبطحون للعثمانيين الجدد.. كيف يفكرون؟
مع تصاعد التوتر في ليبيا الشقيقة، وتَحَرُك مصر للقيام بواجبها في الدفاع عن الأمن القومي، ومع تصاعُد الأعمال التركية العدوانية من دعم للإرهاب ومحاولات للعبث بالأمن القومي للمنطقة، نفاجأ بأناس عرب-من مصر وغيرها-يهللون للمعتدي التركي ويهتفون له بالدعاء بالنصر.
بل إن بعضهم يلقبون رجب طيب أردوغان بـ"السلطان أردوغان" أو "الخليفة أردوغان"، ويروجون لأنه هو الذي سيبعث الدولة العثمانية التي لا يذكرون اسمها إلا ووراءه "أعادها الله"!
لست وحدي من لاحظ هؤلاء القوم ونشاطهم، ولستُ وحدي من يدرك أنهم يمثلون "الطابور الخامس" للمعتدي التركي.. حتى أن صديقًا صحفيًا -لا انحياز له لهذا النظام الحاكم أو ذاك- قد كتب منذ أيام على صفحته الشخصية يبدي اندهاشه واستنكاره هذه الظاهرة قائلا ما معناه أنه يتفهم رفض البعض أي تدخل أجنبي في ليبيا، ولكنه لا يتفهم أن يرفض هؤلاء التدخل المصري في ليبيا بينما يرحبون بالتدخل التركي!
الأمر إذا يمثل "ظاهرة" لا تقتصر ملاحظتها على توجه بعينه، وإنما هي تقلق أي إنسان لديه الحد الأدنى من الغيرة الوطنية والقومية على أمنه وأمن وطنه وأمته!
- خارج حركة التاريخ:
من آليات الدفاع النفسي للهرب من شعور الانسحاق أو السخط على الواقع "النوستالجيا/الحنين المفرط إلى الماضي".. وهي أحيانًا آلية صحية، ولكنها تتحول إلى "اضطراب" أو "وضع غير سوي نفسيًا" لو تجاوزت حد "الحنين المفرط إلى الماضي" إلى "العيش في الماضي والانفصال عن الحاضر".
وهو ما يعانيه هؤلاء المهللون لأردوغان وسياساته وتلويحه الضمني المستمر بوعود مبطنة بـ"إعادة المجد العثماني"، فهم يعيشون في "تاريخ موازٍ منفصل" لا تمثل فيه كل دولة "وحدة سياسية" أو "كيان سياسي" مستقل تحت علم وطني خاص، وتختلف سياسة كل منها عن الأخرى، وإنما العالم في نظرهم هو عبارة عن "دول الإسلام" يمثلها الأتراك ومن والاهم و"أعداء الإسلام" ويمثلهم كل من هم ضد تركيا ومعسكرها.
بالنسبة له الحرب ما زالت مستمرة بين "الدولة العلية أعادها الله"-على حد وصفه-من جانب، و"الغرب الاستعماري المتآمر وعملائه الخونة" من جانب آخر.. بلى.. فبالنسبة لهذا الشخص لا وجود لمصر ولا سوريا ولا العراق ولا ليبيا فكل هذه ولايات تم فصلها عن "الدولة العلية" أو "الخلافة العثمانية" بفعل "الاستعمار"، وبالتالي فإن قيام أردوغان بالتدخل فيها ما هو إلا "حرب استرداد".
96 عاما مضت منذ سقوط دولة العثمانيين الذين لم يحمل سلاطينهم ألقاب الخلفاء إلا لمدة 48 سنة (منذ عام 1876م)، ولم يستوعب هذا الشخص بعد أن العالم قد تغير.
وعدم الاعتراف بالتقسيم السياسي الحالي للدول العربية هو في حد ذاته تأكيد لانفصال هؤلاء عن التاريخ الواقعي، فصحيح أن الاستعمار الأجنبي كان متداخلا -بشكل أو بآخر- مع عملية التقسيم، ولكن القارئ للتاريخ العربي يدرك بسهولة أن تلك التقسيمات كانت موجودة من قبل حتى نشأة العثمانيين، حتى عندما كانت كل تلك البلاد تحت راية واحدة.. فخلال حكم الخلافات الراشدة والأموية والعباسية والزنكية والأيوبية والمملوكية كان لأغلب تلك البلدان كيانها الخاص كمصر والعراق والشام وغيرها.. ربما بشكل أقل تحديدًا مما هو عليه في عالم اليوم ولكن بشكل كافٍ لتمييز كل قُطر عربي عن قرينه.
هذا فضلا عن أن ثمة أمر واقع دولي ينبغي التعامل معه بعملية وواقعية، هذا الأمر الواقع يقول إن أي دولة تخاطب دولة أخرى إنما هي تخاطب تلك الدولة في إطار حكومتها وإقليمها وشعبها، حيث يحدد القانون الدولي العام الدولة بأنها تتكون من ثلاثة عناصر هي: إقليم وشعب وسلطة حاكمة.. فلا يُعقَل أن يطلب هؤلاء إلغاء تلك التعريفات لمجرد عجزهم عن مسايرة الواقع الدولي.
وثمة عبارة يرددونها أحيانًا هي "الحدود تراب"، وهي كلمة حق يراد بها باطل، فصحيح أن العرب يمثلون "قومية عربية" واحدة، وأن المسلمين يمثلون "قومية إسلامية"، وأن أي أناس منتمين لرابطة متجاوزة للحدود السياسية-كالروابط الإفريقية أو البحر متوسطية مثلًا- تقوم بينهم علاقة تكافلية خاصة، ولكن هؤلاء المرددين لـ"الحدود تراب" من دون فهم يغفلون التمييز بين "الشعب" و"الأمة"، فالشعب هو "هؤلاء الذين تجمعهم وحدة سياسية واحدة" بينما الأمة هي اجتماع شعوب على ثقافة أو إثنية أو دين أو قارة واحدة، كالأمم العربية أو الإسلامية أو الإفريقية أو غيرها.
وصحيح أننا كعرب يجمعنا شعور مشترك بالإخاء والتعاطف، وأن التكافل والتضامن هما واجبان ملزمان لكل عربي مخلص لعروبته، وأن بين المنتمين للإسلام شعور مماثل، وأن إزالة الخلافات السياسية بين أخوة العروبة والإسلام وإقامة مختلف وسائط التكافل والتعاون بينهم ضرورة ملحة، وأن السعي الدائم لوحدة عربية ووحدة إسلامية تتجاوز الفواصل السياسية هو مطلب ضروري ومسعَى هام، إلا أن ثمة أمرًا واقعًا هو أن كلا منا ينتمي لوطن عليه صيانة استقلاله والحفاظ على الولاء له.
لكن لكن هؤلاء القوم لا يعترفون بهذه الرابطة الوطنية، بل يتعمدون دومًا تسفيهها وإعلان رفضها، وهو تأثير من جماعات للإسلام السياسي دأب منظروها وأساطينها على ترديد مقولات من نوعية "أن يحكم مصر مسلم ماليزي خير من أن يحكمها قبطي مصر.
- أساطين العمالة:
وبينما يمكننا أن نبرر بما سبق موقف "السواد الأعظم" من المنبطحين لتيار العثمانيين الجدد والمهللين للعدوان التركي على البلاد العربية كليبيا وسوريا والعراق، والسعي التركي للتحرش بالأمن القومي المصري، إلا أن فوق هذا السواد الأعظم "أساطين للعمالة".. هؤلاء ليسوا من المخدوعين بالدعاية التركية بل هم من أبواقها، وليسوا من المتأثرين بالنوستالجيا العثمانية بل يرتزقون منها.. فإن كان لأردوغان "مرتزقة السلاح" الذين يبعث بهم إلى ليبيا فإن لديه كذلك "مرتزقة الأفكار" من المارقين الذين قامت صفقتهم القذرة معه على أن يفتح لهم تركيا ويترك لهم حرية البث المرئي مقابل أن يخدموا خطته.. هؤلاء القوم يدركون جيدًا أن أردوغان ليس الخليفة الموعود ولا هو "مجدد مجد دولة الإسلام" وإنما هو مجرد ضبع طامع في بلاد الآخرين، ولكنهم يجارونه في دعايته وشعاراته أملًا في أن ينتصر فيضعهم على مقاعد الحكم في البلدان التي غادروها مذمومين مدحورين.
هؤلاء هم النسخة العصرية من "خاير بك" الذي خان بلاده لصالح الغزاة العثمانيين، ومن يراني أبالغ يمكنني أن أريه بنفسي الصفحات الشخصية لبعضهم حيث تمتلئ بالتمجيد لأردوغان ونظامه بل والتهليل لعدوانه على العرب بل وأزيدكم من الشعر بيتًا أن بعضهم كان يهلل فرحًا ويبدي الشماتة فيمن يسقطون برصاص وقذائف الجيش التركي في سوريا والعراق!
بين الحماقة والخيانة إذاً تهلل وتقف جوقة العثمانيين الجدد.. ثمة تعبير مصري جنوبي-صعيدي-شهير هو "واكل ناسه" يقال لمن تنكر لأهله وغدر بهم فكأنما هو قد أكل لحمهم.. أعتقد أنه يصف هؤلاء المنبطحين بفعل الحماقة أو الخيانة أنهم "واكلين ناسهم"... والحذر منهم والضرب بقوة على أيديهم لا يقل أهمية عن إعداد ما استطعنا من قوة للمعتدي الخارجي على أمننا القومي، كيلا نجد أنفسنا-لا قدر الله-نُطعَن من ظهورنا في خضم المعركة!