ايمن سلامة يكتب.. هل سلمت حكومة الوفاق سيادة ليبيا إلى المستعمر التركي؟

الجنوب بوست /سكاي نيوز عربية

لم يترك القانون الدولي شاردة أو واردة في مجال العلاقات الدولية إلا ونظًمها وأطًرها في مبادئ وقواعد راسخة.

بل أن هذه المبادئ والقواعد لم تقتصر على "دومين" العلاقات الدولية بين أشخاص القانون الدولي: الدول ذات السيادة والمنظمات الدولية، ولكن امتد القانون الدولي بذراعه الطولى لينظم ويُؤطِر مسائل داخلية في إقليم الدول ذات السيادة، كانت الدول في العهود الغابرة تزعم أنها تندرج ضمن اختصاصها المطلق والأصيل، وتأتي على قمة هذه المسائل حقوق الإنسان الأساسية وحرياته العامة.

يجب أن يفهم مبدأ سيادة الدولة في حدود القانون الدولي القائم، وهو المعنى الذي أشارت إليه "المحكمة الدائمة للعدل الدولية" في أحد أحكامها حين قررت "أن على الدولة الا تتجاوز الحدود التي رسمها القانون الدولي لصلاحيتها"، وهذا يعني أن السيادة فكرة قانونية محدودة ونابعة من القانون الدولي، وخاضعة له، وأن الدولة في المجتمع الدولي المعاصر أصبحت دولة قانون تلتزم بأحكام دولية حددها القانون الدولي وقواعده العامة.

وتواترت كافة الأحكام القضائية التي صدرت عن مختلف المحاكم الدولية وهيئات التحكيم الدولية على تقرير مسؤولية الدولة عند مخالفتها لأحكام القانون الدولي؛ وذهبت بعض هيئات التحكيم الدولية إلى حد تقرير أن مبدأ علو القانون الدولي على القانون الداخلي هو مبدأ لا يرقى إليه الشك.

يتعلق الاستقلال الخارجي للدولة بحقها في إدارة علاقاتها الخارجية بكل ما فيها من قدرة وكفاية وفقا لرغباتها ودون أن تكون هناك مراقبة عليها من جانب دول أخرى، ويعد الاستقلال الخارجي للدولة اختبارا أساسيا لقبول أعضاء جدد في منظمة الأمم المتحدة، لأن الدولة التي تفتقر إلى هذه المِزية تعد غير مؤهلة للعضوية.

وفي الحالة الليبية لا يمكن تجاهل التصريح السافر لوزير الدفاع التركي "خلوصي آكار" يوم الرابع من يوليو 2020: "تركيا ستبقى إلى الأبد في ليبيا، وأن تركيا لن تتراجع عن خططها في ليبيا".

لم تُخبر الجماعة الدولية بمفهوم المعاهدات غير المتكافئة بتلك التي عقدتها ليبيا في نوفمبر 2019 مع تركيا، فالمصطلح ليس جديدا على لغة القانون، فقد عرفته الجماعة الدولية منذ القرن الثامن عشر، والمعاهدات غير المتكافئة هي "تلك المعاهدات التي تنطوي على انعدام المساواة في المراكز التعاقدية بين أطرافها واختلال في الامتيازات والالتزامات الناشئة منها بالنسبة لكل منها بحيث يؤدي استمراراها إلى انتهاك سيادة الطرف الأضعف وإهدار مصالحة الحيوية"، ويحصرها البعض في المعاهدات التي تبرم بين الدول حديثة الاستقلال وبين الدول التي كانت تستعمرها وذلك بمناسبة منح الاستقلال.

فهل ظل الاستعمار التركي لليبيا جاثما على صدور السراج ورفاقه حين وقع أكثر الاتفاقيات الدولية غرابة في التاريخ الحديث للمعاهدات الدولية وتحديدا: مذكرة تعيين الحدود البحرية مع تركيا في نوفمبر 2019؟

لا ريب أن الحقيقة الواقعية للحياة الدولية تكشف عن أن الدولة كي تكون ذات استقلال وطني تضفي عليه صبغة التحرر السياسي والاقتصادي يجب أن تكون حائزة على خاصتين جوهريتين وهما: عدم قابلية سيادة الدولة للفقدان، وعدم محدودية هذه السيادة إلا في الأحوال والأحكام التي يحددها القانون الدولي.

فلا يمكن أن تكون هناك حدود أو قيود مضروبة على سيادة الدولة من قبل دولة أخرى (أقوى منها) في مجال العلاقات الدولية، ومرد ذلك أن تقييد سيادة الدولة الخارجية يتولد عنه الخضوع المطلق لسلطة دولة أخرى أجنبية، وبالنتيجة تضحى الاتفاقيات الدولية بين الدولتين تشوبها شائبة الإذعان، وبالمحصلة في مثل هذه الحالة لا تكون الدولة صاحبة استقلال وطني، فالاستقلال لا يتجسد فقط في رفع العلم، وشغل المقاعد في المنظمات الدولية، أو تكون حكومة الدولة مفروضة عضوة في المنظمات الدولية، وفي هذه الحالة لا ينسحب المبدأ القانوني الراسخ في القانون الدولي "المساواة في السيادة بين الدول" على هذه الدولة.

الشاهد أن حكومة الوفاق الليبية حين أبرمت مذكرة التفاهم الخاصة بتعيين الحدود البحرية مع تركيا لم تضع في حسبانها أن هناك ثمة قانون اسمه القانون الدولي للبحار، يحكم وينظم كافة الحقوق والاختصاصات والواجبات للدول في هذه المسألة وغيرها من المسائل المختلفة، وأن ذلك القانون يلزم الدول الساحلية قبل أن تبرم مثل هذا النوع من المعاهدات الدولية الخاصة بتعيين حدودها البحرية أن تقوم بالتشاور المسبق مع الدول الساحلية سواء المتقابلة أو المتجاورة معها حتى لا تنتهك أية حقوق مدعاة من جانب هذه الدول، والأهم في ذات الصدد أن تتسق هذه المعاهدات الدولية مع القانون الدولي للبحار العاكس للأعراف الدولية، وهنا نشير أن المذكرة المزعومة المشار إليها لم تؤيدها دولة واحدة من الدول أعضاء منظمة الأمم المتحدة ووصمها سفير الولايات المتحدة في اليونان بالفكر المنعزل لتركيا.

تستمد كافة المعاهدات الدولية مشروعيتها من رضاء الدولة، وهنا فلا يجوز أن نقصر الدولة الليبية في شأن إبرام مثل هذه المعاهدات التي تنتهك حقوق الدول الساحلية في البحر المتوسط على حكومة الوفاق الليبية إلا اذا كانت هذه الحكومة ذات سيادة تتمتع بسلطة مطلقة مخولة من الشعب أو الأمة تنسحب على المجموعة الوطنية والمؤسسات الدستورية، وليست حكومة اكتسبت شرعيتها بموجب قرار دولي صدر عن مجلس الأمن، وصارت بموجبه حكومة الوفاق الليبية تصدر أوامر تسييريه في نطاق محدود متعلق بالشؤون المتعلقة بنظام الحكم، فولادة الحكومات والسلطات يجب أن تكون ولادة طبيعية من رحم الدولة ذاتها، وليست ولادة عسيرة قيصرية استثنائية.

وإن حل المولود استثنائيا، كما في الحالة الليبية، فلا يجب أن يدوم الاستثناء وهو ما أفصح عنه بجلاء مؤخرا كل من الرئيس الجزائري وقبله الرئيس التونسي، فالاعتراف الدولي بحكومة الوفاق في أوله وآخره هو اعتراف مؤقت واقعي بحكومة لا يزعم أحد من الآحاد بصيرورة ذلك الاعتراف اعترافا شرعيا قانونيا.

تتشبث جوقة حكومة الوفاق بأهداب سيادتها المطلقة – التي لم تدلل عليها في مناسبة واحدة – في أن تقيم علاقاتها مع نظيرتها من الدول وتعقد ما شاءت من المعاهدات الدولية، وغاب بالطبع على الوفاق، أن سيادة الدول مقيدة بمبادئ القانون الدولي، والقانون الدولي للمعاهدات الدولية التي تشترط شروطا جوهرية لصحة المعاهدات الدولية التي تبرمها الدول "ذات السيادة".

ومن بين شروط صحة إبرم المعاهدات الدولية: ألا يشوب عقد هذه المعاهدات غلط، أو إكراه، أو غش، أو تخالف قواعد القانون الدولي الآمرة، ولن نزيد من الشعر أي بيت في ذلك الصدد ويكفينا في ذلك المقام أن ندلل أن مذكرة التفاهم المزعومة أرسلتها فقط تركيا -انفرادا- إلى الأمانة العامة لمنظمة الأمم المتحدة لتسجيلها ونشرها على الدول الاعضاء، وذلك بالمخالفة الجسيمة لميثاق منظمة الأمم المتحدة التي تلزم أطراف المعاهدات الدولية بذلك الالتزام الدولي.

تستدعي المذكرة التي أبرمت بليل بين الحكومة التركية وحكومة الوفاق الليبية مسألة جد مهمة وهي أن تصرف حكومة الوفاق الليبية خرق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة في شأن كافة التصرفات والممارسات الخارجية التي تمارسها حكومة الوفاق في محيط العلاقات الدولية، ولذلك يصير أي تصرف لرئيس الدولة الليبية المخالف للشروط المقررة في دستور الدولة "القائم" هو تصرف فاسد ويفضي لأن تتحمل الدولة المسؤولية الدولية عن ذلك التصرف الفاسد الذي صدر عن الممارس لسلطة رئيس الدولة في ليبيا.

ولذلك يعد النظر للتداعيات السلبية التي لحقت بالدولة الليبية نظرة قاصرة محدودة، بل نصمها بالنظرة النرجسية، لإهدار الحقوق الدولية المكفولة لكافة الدول الساحلية والحبيسة أيضا بموجب القانون الدولي للبحار، حيث تمخض عن هذه المذكرة الفاسدة حقوق للدولتين الليبية والتركية دون سند أو عماد في القانون الدولي العام والقانون الدولي للبحار.

نافل القول إن الدول تربطها ببعضها مصالح مشتركة تفرض عليها التعاون وتجعلها في حالة تبعية متبادلة، وليس لدولة في سبيل تحقيق أغراضها الخاصة أن تتجاهل مصالح الدول الأخرى، وممارساتها لسلطانها يجب أن يكون في نطاق قواعد القانون الدولي وفي حدود تعهداتها والتزاماتها الدولية.

ولا يمكن أن يُدعى بأن تقييد تصرفات الدول على هذا الوجه فيه انتقاص من سيادتها، لأن هذا التقييد عام يشمل كلفة الدول وفي صالحها جميعا، ولأن السيادة لا تتنافي مع الخضوع للقانون، والذي يتنافى معها هو الخضوع لإرادة دولة أخرى.

شتًان بين تجاهل السلطة التشريعية الليبية عند اتخاذ اجراءات التصديق على المذكرة المزعومة، ولم تقم هذه السلطة بالاعتراض عليها، والحالة المغايرة تماما التي تعترض فيها السلطة التشريعية الليبية على هذه المذكرة، فالشاهد والقائم أن البرلمان الليبي ومن فوره جاهر وعلى رؤوس الأشهاد بالاعتراض على هذه المذكرة، ومن ثم لا يجوز الزعم بعدم الدفع ببطلان مذكرة التفاهم لاحقا من جانب ليبيا، وفقا لأحكام القانون الدولي للمعاهدات الدولية.

صفوة القول، وباختصار غير مُخل، كشفت ممارسات حكومة الوفاق الليبية في علاقاتها الخارجية، وعلى وجه التحديد مع تركيا، عن علاقات غير متكافئة بين الدولتين، واستحضرت حكومة الوفاق الحالة الليبية أثناء القرن التاسع عشر حين كانت ليبيا، ومعظم الدول العربية، ودول البلقان الأوروبية "تابعة " للإمبراطورية العثمانية، وكانت تُقسِم هذه الدول للسلطان العثماني بيمين الولاء والطاعة.